اقرأ النصّ الكامل لحوار الرئيس عبد الفتاح السيسي لصحيفة “وول ستريت جورنال”
عندما عين – آنذاك – الرئيس محمد مرسي لواءً غير معروف للكثيرين، وهو عبد الفتاح السيسي كوزير للدفاع في أغسطس 2012، انتشرت شائعات حول أن هذا الاختيار جاء بسبب تعاطف السيسي مع تعاليم جماعة الإخوان المسلمين المنتمي إليها محمد مرسي. والدليل على ذلك ”زبيبة الصلاة“ على جبهة الجنرال، وهي علامة تظهر على مقدمة الرأس بسبب كثرة أداء الصلاة بحماس. واعتقد مرسي أن المسلم الورع سوف يكون بالطبع تابعاً لتيار الإسلام السياسي. لكن السيسي أعطى للعالم بعد ذلك درساً في الفرق بين التدين والتطرف.
و يخبرني السيسي في حواري معه الذى استمر لساعتين في قصر الإتحادية بمصر الجديدة أن ”هناك مفاهيم و تصورات خاطئة عن الإسلام الحقيقي. فالدين محمي بروحه وجوهره، وليس بالبشر. لأن البشر يأخذون المفاهيم الأساسية للدين ثم ينحرفون بها يميناً و يساراً”.
ثم سألته عما إذا كان يقصد أن أعضاء جماعة الإخوان المسلمين هم مسلمون سيئون؟ فرده قائلا: ”الموضوع يتعلق بالأيدولوجيات والأفكار”.
ثم أضاف: ”الإسلام الحقيقي يضمن الحرية المطلقة لكل الناس في أن يؤمنوا أول لا يؤمنوا. لا ينص الإسلام على قتل الآخرين لأنهم لا يؤمنون بالدين الإسلامي. ولا يقول الإسلام إن (المسلمين) لهم الحق في إملاء (معتقداتهم) على العالم أجمع. لا يقول الإسلام إن المسلمين فقط هم من سيدخلون الجنة والبقية إلى النار”.
ثم حرك سبابته اليمنى إلى أعلى للتأكيد على كلامه وقال: ”نحن لسنا آلهة على الأرض، و لا نملك الحق في التحدث باسم الله”.
عندما وصل السيسي إلى السلطة في يوليو 2013، عقب مظاهرات ضد مرسي شارك فيها قرابة 30 مليون مصري، لم يكن واضحاً حينها أنه سيظهر كأبرز المدافعين عن الإسلام المعتدل والإصلاح في العالم. وبوضع تقواه الشخصية جانباً، يبدو السيسي كشخصية عسكرية تقليدية مصرية. وقد تمت مقارنته بطريقة سلبية بحسني مبارك، القائد السابق للقوات الجوية، الذي ظل رئيساً لمصر حتى سقوطه عام 2011.
تبدو الأمور المتشابهة مضللة. مبارك عاش خلال فترة معادية للاستعمار خلال حكم الرئيس جمال عبد الناصر، وتدرب في الاتحاد السوفيتي، وقاد الحملة الجوية ضد إسرائيل خلال حرب أكتوبر 73 . و جعله الرئيس أنور السادات نائباً له عام 1975 لأنه شخص غير متحيز ودوره ثانوي. وكان افتقاده للقدرة على التخيل ميزة اختاره من أجلها السادات. وقد أصبح مبارك رئيساً فقط بسبب اغتيال السادات بعد تعيينه نائباً بست سنوات.
أما السيسي، 60عاماً، فقد عاش في فترة مختلفة تماماً. عندما تخرج من الكلية الحربية عام 1977 كانت مصر حليفا قويا لأمريكا، وعلى شك صنع معاهدة سلام مع إسرائيل. وبدلاً من السفر للتدريب في روسيا، حصل السيسي على تدريبات عسكرية في تكساس وبعد ذلك بالطبع تدريبات لقوات المشاة في فورت بينينج، بولاية جورجيا. ثم عاد مرة أخرى للولايات المتحدة في 2005، وأقام هناك في المدرسة الحربية بمدينة كارلايل بولايا بنسلفانيا.
وأشار السيسي إلى الفرق بين زيارتيه لأمريكا وقال: “كان المجتمع الأمريكي يعيش في سلام وأمان. وقبل أحداث 11 سبتمبر كانت حتى القواعد العسكرية مفتوحة. ولم يكن هناك فرق كبير بين الحياة المدنية والحياة في قاعدة عسكرية. في عام 2005 شعرت بالتشديدات”.
كان ما وراء هذا التصريح هو إظهار التعاطف العميق والإعجاب بأمريكا، أمام صحيفة أمريكية. وشدد أيضاً على أنه ليس لديه أي نية لتغيير السياسة الخارجية المصرية المؤيدة للولايات المتحدة رغم بعض المواقف التى تظهر تقربه من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أملاً في صفقات أسلحة وبناء أول محطة نووية مصرية.
وقال السيسي: ”دولة مثل مصر لن تكون مزعجة في علاقتها الثنائية“ مع أمريكا. وأضاف: ”لن نتصرف بحماقة“. وعندما سألته عن تسليم طائرات (F16) إلى مصر، رفض التطرق تماما إلى الأمر. وهى طائرات أوقف الجانب الأمريكي تسليمها إلى مصر عقب الإطاحة بمرسي والآن تنتظر قرارا من الرئيس أوباما.
وقال: ”لا يمكن أن نختزل علاقتنا بأمريكا في أمور مثل التسليح. نحن نسعى لعلاقة استراتيجية مع أمريكا فوق كل شئ آخر. ولن ندير ظهورنا لكم حتى لو فعلتم أنتم ذلك”.
كان هناك غرض أعمق للسيسي وراء تدخلاته المؤيدة لأمريكا وتعليقاته حول أحداث 11 سبتمبر، لقد أراد أن يذكر منتقديه بالمقايضة بين الأمن والحريات المدنية التى تضطر إليها كل بلد.
أشار السيسي إلى ذلك حينما لمحت إلى الغضب والقلق الذي يشعر بهما كثير من الليبراليين الذين دعموه في 2013. فالقوانين الجديدة التي تقيد بشدة التظاهر في الشوارع تذكر بأيام مبارك. في يونيو الماضي، بعض صحفيي الجزيرة ومنهم المراسل الأسترالي بيتر جريست، كان قد حكم عليهم بمدة طويلة في السجن باتهامات مريبة بأن تقاريرهم الصحفية ”تدمر الأمن القومي“، والآن تم إطلاق سراحهم. تم حظر جماعة الإخوان المسلمين، و مرسي في السجن قيد المحاكمة، و مررت المحاكم المصرية أحكام الإعدام على المئات من الإسلاميين المزعومين، و إن كان معظم تلك الأحكام غيابياً.
يضيف السيسي: ”رسالتي إلى الليبراليين أنني حريص جدا على بلوغ توقعاتهم، لكن الموقف في مصر طغى على ذلك”. وأبدى امتعاضه لواقعة القبض على صحفيي الجزيرة، وأشار إلى أن تلك الواقعة قد تدمر سمعة مصر حتى لو كان مئات من المراسلين الأجانب ”يعملون بحرية كبيرة في هذه الدولة”.
وعند سؤاله عن الاقتصاد المصري، قدم تقييماً صريحاً فقال: ”في الأربعة أعوام الماضية تضاعف ديننا الداخلي إلى 300 مليار دولار. لا تفصلي إجابتي عن السؤال المتعلق بالليبراليين المستائين. بلادهم في حاجة إلى البقاء. لا نملك رفاهية الصراع والخلاف وأن نضيع وقتنا في قضايا كتلك. الدولة في حاجة إلى الأمن والنظام من أجل وجودها. لو استطاع العالم دعمنا سوف أترك الناس يتظاهرون في الشوارع ليلاً و نهاراً”.
وأضاف مستشعراً تشككي في ذلك: ”لا يمكنك تخيل ذلك كأمريكي. أنت تتحدث بلسان دولة على قمة التقدم الثقافي والمالي والسياسي والحضاري، كل ذلك موجود في الولايات المتحدة” لكن لو طبقت المعايير الأمريكية في مصر، لن يقدم ذلك للمصريين أي شئ.
وأكمل: ”أتحدث عن القيم الأمريكية عن كالديمقراطية والحرية. يجب احترامها. لكن يجب أن تحاط بمناخ مناسب. لو استطعنا الوصول إلى الرخاء هنا يمكن صيانة تلك القيم وليس بالحديث فقط”.
كل ذلك يبدو متماشياً مع تربية السيسي العسكرية ويذكرني بـ”برفيز مشرف” الرئيس الباكستاني السابق والجنرال الذي تحول إلى رئيس. لكن المقارنة ليست ملائمة بشكل كبير. تحت قيادة مشرف، استمرت باكستان في صفقات مع الإرهابيين مقابل منح قادة طالبان أفغانستان ملاذاً آمن.
على النقيض، من المستحيل التشكيك في جدية الرئيس السيسي في مواجهته للتطرف الإسلامي، أو كرهه لتصدير عدم الإستقرار. ففي فبراير الماضي، أمر بمهاجمة أهداف لتنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا عقب قتل داعش لـ 21 قبطياً مصرياً. لم تكن العلاقات الأمنية المصرية مع إسرائيل أقرب من ذلك، فتحرك السيسي بقوة لإغلاق الأنفاق بين مصر وغزة التي تحصل من خلالها حماس على أسلحتها.
و في نهاية هذا الشهر سيستضيف السيسي قمة للدول العربية، وتتمحور حول قوة عربية لمواجهة الإرهاب. وقال إن مصر لن تشارك في مقاتلة داعش على الأراضي العراقية، موضحا أنها مهمة العراقيين بمساعدة مجلس الأمن. وكان السيسي حريصاً على تجنب الحديث عن الطموح الإيراني في المنطقة أو انتقاد مفاوضاتها النووية، التي قال أنه يدعمها، لكنه قال: ”أتفهم قلق الإسرائيليين”.
لكنه أضاف أن القوة الجديدة مطلوبة ”للحفاظ على ما تبقى“ من الاستقرار في العالم العربي. وجزئياً أكد على أنه ”لن توجد أي ترتيبات على حساب دول الخليج، فأمن الخليج لا غنى عنه من أجل أمن مصر”.
ثم شجب السيسي العادة الغربية بالتدخل العسكري ثم الفشل في تحمل العواقب. وقال: ”لقد كان لحلف الناتو مهمة في ليبيا و لم تنجز“، وأضاف أن الأمم المتحدة مستمرة في فرض حظر تسليح على ليبيا وهذا يؤثر في شرعية الحكومة غير الإسلامية المتواجدة في طبرق بينما ”المليشيات المسلحة تحصل على سيل لا يتوقف من الأسلحة و الذخائر“.
و قال السيسي: ”لم أكن مع نظام القذافي، لكن هناك فرق بين القيام بشىء وإدراكك لتبعات هذا الفعل. لم تكن مخاطر الإرهاب والتطرف واضحة أمام تفكير الولايات المتحدة و أوروبا. إنه أمر خطير جداً لو فقدت الدول السيطرة لأن التطرف سوف يسبب لهم مشاكل لا يمكن تخيلها”. و أكد أن نفس الدرس ينطبق على الغزو الأمريكي للعراق.
لكن السيسي ليس متعصباً في نقد تدخل الولايات المتحدة الكبير في الشرق الأوسط. فمع دراسة مسألة تراجع النفوذ الأمريكي الكبير في المنطقة، يبدو السيسي مؤيد ا بشكل كبير لـ”باكس امريكانا”، وهو مصطلح سياسي أمريكي يشير إلى اتفاقيات السلام التى تعقد بين الأمم بعد حروب كبيرة.
يقول: ”الولايات المتحدة تمتلك القوة وربما معها تأتي المسؤولية. ولذلك هي ملتزمة ولديها مسؤوليات نحو العالم أجمع. إنه أمر غير مسؤول ولا مقبول أن تكون أمريكا غير ملتزمة بشئ أو لديها مسؤوليات تجاه الشرق الأوسط. يمر الشرق الأوسط بالوقت الأصعب والأدق وذلك يتتطلب تدخلاً أكثر وليس أقل”.
و في نفس الوقت يرى السيسي أن إنقاذ مصر أمر شخصي، حتى مع إصراره أنه لا ينوي أن يصبح رئيساً آخر مدى الحياة. وعندما طلبت منه أنه يذكر أكبر خطأ لمبارك قال ببساطة ”بقي في السلطة لفترة طويلة”.
وقبل حوارنا بيوم، تابعته عن قرب في المؤتمر الاقتصادي في شرم الشيخ، الذي احتفل خلاله مع شركة جنرال اليكتريك بقرارها بالاستثمار في مصر من أجل انهاء أزمة الطاقة.
وصف فلسفته الاقتصادية قائلا: ”نحتاج لتشجيع مجتمع الأعمال للقدوم والاستثمار في مصر”. ويؤكد السيسي باستمرار على التحرك بسرعةن ويقول إن “حجم الجهد المطلوب من أجل تأمين مطالب 90 مليون شخص كبيرة جداً و تفوق قدرة أي جهود فردية”.
و يعي أيضاً أن العمل الأهم سوف يحتاج وقتاً. ففي يناير وقف السيسي أمام دعاة جامعة الأزهر وطالب بـ ”ثورة“ في الإسلام. ومتابعة هذا العمل أمر صعب. وأضاف: ”الأمر الأكثر صعوبة هو تغيير الخطاب الديني وتغيير طريقة تعامل الناس مع دينهم. لا تتخيلوا أن النتائج سوف تظهر خلال أشهر أو سنوات قليلة. فالأفكار المتطرفة (عن الإسلام) غرست قبل 100 عام مضت. و نرى الآن النتائج”.
و لا يعني قوله ذلك أن الأمر لا يمكن تحقيقه. يقول السيسي: ”كانت فكرة التعاطف الشعبي مع الدين تتصدر المشهد لسنوات في الماضي. لم يعد ذلك موجوداً بعد الآن. هذا التغيير اعتبره استراتيجياً. لأن ما جعل الإخوان المسلمين في السلطة كان تعاطف المصريين مع فكرة الدين. اعتقد المصريون أن الإخوان المسلمين يعبرون عن الإسلام الحقيقي. وكانت السنوات الثلاث الماضية اختباراً حقيقياً لهؤلاء الناس الذين كانوا يروجون لأفكار دينية. و مر المصريون بكل ذلك وقالوا إن هؤلاء الناس لا يستحقون التعاطف ونحن لن نسمح بذلك”.
وخلال حوارنا، كان الرئيس السيسي يتحدث باللغة العربية من خلال جهاز الترجمة الفورية. لكن بمجرد إيصال تلك النقطة، قال بالعامية الأمريكية ”هل استوعبت ذلك؟“